للشيخ د. خالد الردادي وفقه الله
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،…وبعد:
فقد شاهدت واستمعت مقطعًا لأحد الفضلاء من أهل العلم يقرر فيه عدم جواز تخريج الأحاديث والحكم عليها في خطبة الخطيب يوم الجمعة، وزعم أنَّ هذا الفعل لم يعرفه العلماء من قبل وإنما هو أمر حادث لا أصل له!
وقد هالني ما قاله واستغربت صدوره منه خاصة وأنَّ له طلابًا كثرًا ونفع الله بدروسه ومحاضراته ودعوته –وفقنا الله وإيَّاه لمرضاته- ، وعلى كل فالعلم رحم بين أهله، ولذلك رأيت ضرورة مناقشته في زعمه هذا وبيان غرابة ما جاء به، حتى لا يغتر به مغتر، والله الموفق والمعين.
وسأذكر نصَّ كلامه أولًا ثم أناقشه فيه:
قال –وفقه الله-: “تنبيه في أمر يقع من الناس وفيه غلط، وهو عزو الأحاديث في خطبة الجمعة، فهذا شيء حادث لم يكن في خطب الأولين…من القرن الخامس إلى قبل هذا القرن، تجدون كلهم لا يذكرون في الخطبة عزو الحديث…..لأن الخطبة عبادة وهذا ليس منها، الفقهاء إذا ذكروا خطبة الجمعة قالوا لها أركان ولها سنن وبينوها وليس هذا من ضمنها، فالأصل في الخطبة التوقيف أي لا يدخل فيها شيء ليس منها، فإدخال هذا ليس من جملة عبادة الخطبة..” انتهى كلامه.
ويجاب عن كلامه بما يأتي:
1- لا يسلم بأن الخطبة توقيفية؛ بمعنى أنه لا يدخل من الألفاظ والكلام إلا ما دل عليه دليل، وذلك لأنَّ خطبة الجمعة توقيفية من حيث الأداء وليست توقيفية في ألفاظها؛ لكن إن جاء في الأدلة ما يدل على استحباب ذكره في الخطبة فإنه يحرص عليه.
وكان على الشيخ ذكر الدليل أو من سبقه إلى هذا القول من العلماء!
لأن العلماء اختلفوا في قدر أركان الخطبة؛ فذكر بعض الفقهاء أن للخطبة أركاناً لا تستقيم إلا بها، ومتى فقد ركن منها لم تصح الخطبة، وبهذا قال الشافعية في المشهور من مذهبهم([1])، وهو المذهب عند الحنابلة ([2]).
وأركان الخطبة عندهم أربعة: حمد الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقراءة آية، والوصية بتقوى الله عز وجل.
وأقوى ما استند عليه أصحاب هذا القول هو مجرد الفعل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب على الصحيح، فضلا عن الركنية.
وذهب بعض العلماء إلى أن الخطبة تصح بما يصدق عليه اسم الخطبة عرفًا، فيجزئ كل ما يسمى خطبة من تسبيح وتهليل وتحميد، وبهذا قال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبا أبي حنيفة([3]) والإمام مالك في رواية عنه، وهو المشهور من مذهب أصحابه([4])، وهو مذهب ابن حزم([5]).
واستدلوا على ذلك أن المشروط هو الخطبة، والخطبة في العرف اسم لما يشتمل على تحميد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله، والدعاء للمسلمين، والوعظ والتذكير لهم دون التزام بأركان محددة، فينصرف المطلق إلى المتعارف.
والقول الثاني هو الأولى والأظهر من جهة النظر.
لكن الأجدر بالخطيب أن يجمل خطبته بحمد الله والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام فهذا من أكمل ما تقوم به الخطبة، ولا يخليها من الموعظة والحث على تقوى الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ” ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت، بل لا بد من مسمى الخطبة عرفًا، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود”([6]).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: ” اشتراط الفقهاء الأركان الأربعة في كل من الخطبتين فيه نظر، وإذا أتى في كل خطبة بما يحصل به المقصود من الخطبة الواعظة الملينة للقلوب فقد أتى بالخطبة، ولكن لا شك أن حمد الله، والصلاة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقراءة شيء من القرآن من مكملات الخطبة، وهي زينة لها”([7]).
وعليه فإذا كان العلماء مختلفين في عدد أركان خطبة الجمعة، فكيف يصح أن يقال إنها توقيفية من حيث الألفاظ فلا يجوز أن يدخل فيها ما ليس منها؟! لأن المقصود بالخطبة الموعظة والتذكير وتعليم الناس فكل ما يتصل بهذا المقصد جاز دخوله إذا لم يكن فيه ما يخالف السنة.
قال الشيخ ابن باز –رحمه الله-: ” الخطبة ليست توقيفية، فالإنسان يخطب بما يسر الله له، وإن لم يكن خطب بخطبة النبي عليه الصلاة والسلام، المقصود أن خطب الجمع والأعياد والمواعظ ليست توقيفية، لا يخطب الإنسان إلا بالشيء المنقول عن النبي عليه الصلاة والسلام لا، بل يخطب بما دل عليه الكتاب والسنة ولو لم يحفظ أن هذا منقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خطب بذلك، فيخطب يوم الجمعة بما يعظ الناس وينفعهم في كل زمان، وفي كل عصر بما يناسبه”([8]).
ومما يدل على أن الخطبة ليست توقيفية في ألفاظها أنه لم ينقل ويصل إلينا خطبة كاملة من خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- خلا خطبة حجة الوداع، وبعض الخطب ذكر طرف منها أو أكثرها، وكذلك لم ينقل عن الصحابة –رضي الله عنهم- أنهم التزموا خطبة بعينها أو أنهم تقيدوا بها، وكذلك من جاء بعدهم، فهذا مما يؤكد ما سبق ويؤيده.
2- أما قوله عن تخريج الأحاديث وعزوها في الخطبة: ” فهذا شيء حادث لم يكن في خطب الأولين…من القرن الخامس إلى قبل هذا القرن”!!.
فليته لم يتعجل ويصدر هذا الحكم والتعميم، فالمسألة تبنى على استقراء وسبر لحال وتاريخ الخطبة والخطباء عبر القرون حتى عصرنا الحاضر فهلا فعل ذلك؟!
وأتعجب من جزمه من نفي وجود هذا!!
فقد فعل ذلك أسلافنا من قبل وحرصوا عليه؛ “فقد كان رئيس الخطباء في القرن الخامس قد تقدم إلى الخطباء والوعاظ أن لا يرووا حديثًا حتى يعرضوه على الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى- فما صحَّحه أوردوه، وما ردَّه لم يذكروه”([9]).
وجاء في خطب الحافظ ابن حجر العسقلاني–رحمه الله-(852هـ): “..وروينا في معجم الطبراني والدلائل للبيهقي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي -رضي الله عنه- قال: حدثتني أمي أنها …”([10]).
وسئل ابن حجر الهيتمي –رحمه الله-(ت974هـ) في خطيب يرقى المنبر في كل جمعة، ويروي أحاديث كثيرة، ولم يبين مخرجيها، ولا رواتها فما الذي يجب عليه؟
فأجاب بقوله: “ما ذكره من الأحاديث في خطبه من غير أن يبين رواتها، أو من ذكرها، فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث أو بنقلها من مؤلفه كذلك؛ وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك! ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد”([11]).
وهذا يدل على أن تخريج الأحاديث وبيان درجتها والكلام على رواتها في خطبة الجمعة هو المعهود في ذلك الوقت، وأن ما فعله الخطيب المسؤول عنه مخالف لما عهدوه، ولذا سئلوا عنه!
وفي خطب الشيخ عبدالغني النابلسي –رحمه الله- (ت1143هـ) نجده يعزو الأحاديث ويذكر تخريجها كثيرًا([12]).
وجاء في خطب الإمام محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله- (ت1206هـ) قوله: “..روى مسلم في صحيحه…”([13]).
وأما العلماء المعاصرون فالنقول عنهم في ذكرهم للأحاديث مع تخريجها وعزوها كثيرة غفيرة، وحسبك أن تنظر في بعض كتبهم المؤلفة في الخطب والمناسبات.
وفي هذه النقول وغيرها كثير؛ بطلان دعوى أن تخريج الأحاديث وعزوها في خطبة الجمعة من المحدثات، وثبوت أن هذا القول غريب لا مستند له البتة ولا يعرف لقائله سلف فيه، والله الموفق والمعين.
__________
([1]) ينظر: “الوجيز” (1/63)، و”المجموع” (4/522)، و”مغني المحتاج” (1/285).
([2]) ينظر: “المغني” (3/173)، و”شرح الزركشي” (2/175)، و”الإنصاف” (2/387 – 388).
([3]) ينظر: “المبسوط” (2/30)، و”بدائع الصنائع” (1/262).
([4]) ينظر: “بداية المجتهد” (1/161) ، و”الكافي” لابن عبد البر (1/251).
([7]) “الفتاوى السعدية” (ص/193).
([8]) “فتاوى نور على الدرب” (13/216).
([9]) ينظر: “سير أعلام النبلاء” (18/280)، و”شذرات الذهب” (1/40).
([10]) “خطب الحافظ ابن حجر العسقلاني” مخطوط(ل/2أ).
([11]) “الفتاوى الحديثية” (ص/32).
([12]) ينظر كتابه: “يوانع الرطب في بدائع الخطب” (ل/3ب): “روى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح”. وفي(ل6/أ-ب)في صيام عاشوراء: “وقد روي في فضيلته والحث على صومه أخبار صحيحة ليس فيها مقال روى البخاري وسلم…”. وهكذا في جلِّ خطب كتابه.