[ذكر نموذج من الأمور التي اؤتمن عليها المكلف من الخلق]
اعلم أيها المسلم، أن الله الذي أسلمت وجهك له، وأقررت له بالخلق والرزق
والفضل والإحسان، قد ائتمنك على أمور كثيرة داخلة تحت وسعك وقدرتك،
وسوف يسألك عنها، فإن أنت أديت الأمانة فيها، فلك من الله الحياة المباركة، حياة الأمن والطمأنينة والسلام في دار السلام، وإن أنت خُنت الأمانة فيها؛ فقد بُؤت بالإثم والخسران والندامة والهوان.
من هذه الأمور:
(أ) الاستقامة والثبات على الشهادة لله بالوحدانية، وأنه هو المعبود الحق، وعبادة من سواه باطلة، والشهادة لرسول الله ﷺ بالرسالة، وأنها هي الرسالة
العامة الخاتمة، فلا نبي بعد محمد ﷺ، ولا رسالة تحكم شئون العالم إلا رسالته، فمن ابتغى غيرها، وادعى صحة التعبُد بسواها، فقد ضلَّ سواء السبيل، واشترى الباطل بالحق، واستحب العمى على الهدى، فقال تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
[الأعراف: 185].
(ب) القيام بجميع أركان الإسلام والإيمان والإحسان؛ إذ إن العمل بهذه الأركان كلها أمانة في عنق كل مكلَّف ذكرًا كان أو أنثى، فمن قام بها علمًا، وعملاً ودعوة إليها؛ فقد أدى الأمانة، ومن بخسها فقد خان بقدر ما حصل منه بخس من حقها، وسوف يسأل عن ذلك يوم الجزاء والحساب على الأعمال.
(ج) الطهارة بقسميها: طهارة الباطن، وطهارة الظاهر .
والمراد بطهارة الباطن: هي تزكية النفس وتصفيتها من كل انحراف عقدي أو خلقي أو سلوكي.
والمراد بطهارة الظاهر: هي الطهارة من الحدث والنجس، وقد جعل الله الماء طهورًا لذلك كله، كما قال عزوجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}
[الفرقان، من الآية: 48]
وعند فقده شرع الله التيمم بالصعيد الطيب رحمة بعباده، وتيسيرا عليهم؛ لئلا يقعوا في حرج أو عنت؛ حيث قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة:6,7].
فمن قام بالطهارتين، وأداهما على مراد الله ورسوله؛ فقد أدى الأمانة فيهما، ومن أضاعهما أو بخس شيئًا، فسوف يسأل عن ذلك كله يوم الجزاء والحساب
على الأعمال.
د- جميع الجوارح أمانة في عنق صاحبها، وسوف يسأل عنها جارحةً جارحةً:
1- فالفرج أمانة يجب على الإنسان حفظه من جعله في الحرام؛ إذ إن استعماله في الحرام خيانة توجب العقوبة الدنيوية والأخروية، كما قال المولى الكريم
سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: ٢].
وورد في السنة المطهرة ما رواه مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، عن النبي ﷺ قال: (خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي ، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا ، البِكرُ بالبِكرِ ؛ جَلدُ مِائةٍ ، و نَفْيُ سَنةٍ ، و الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ ، جَلدُ مائةٍ و الرَّجْمُ) رواه مسلم (١١/١٨٨ بشرح النووي).
وما تلك العقوبات إلا بسبب تضييع أمانة هذه الجارحة، جارحة الفرج الذي أمر الله أن يحفظ من الحرام ويوضع في الحلال.
۲-وجارحة السمع أمانة لدى صاحبها، فاستعمالها فيها يجب أداء للأمانة، وذلك كسماع قراءة القرآن، وسماع السنة المطهرة اللذين يستمد منهما كل خير وبر وصلاح، هكذا سماع الخطب والمواعظ والوصايا وكل نافع يستفيد منه الإنسان في دينه ودنياه.
أما إذا استعملت هذه الجارحة في سماع ما يحرم على العبد كالتجسُّس على المؤمنين للإضرار بهم، أو سماع الغيبة والنميمة، وقول الزور، وفحش القول، أو سماع الأغاني الخليعة التي يجب على المسلم أن ينزه سمعه عنها، أو سماع ضرب الطبول والعود والرباب والمزامير، أو سماع أصوات النساء الأجنبيات على سبيل التمتُّع والتلذُّذ النفسي، فهذا ونحوه كله خيانة في استعمال هذه الجارحة التي
اؤتمن عليها هذا المخلوق المكلف.
3- وجارحة البصر أمانة لدى صاحبها، فإذا استعملها فيما يجب النظر فيه کالنظر في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وفي الكتب النافعة دينًا ودنيا، وكالنظر في
مخلوقات الله للتفكُّر والاستدلال بها على وجود خالقها وبارئها، وغير ذلك مما ينبغي النظر فيه، وكذا النظر إلى كل ما يباح النظر إليه، فإن استعمال هذه الجارحة على هذا النحو حق وحلال، ووضع للشيء في موضعه.
أما إذا استعملت جارحة البصر في النظر إلى ما لا يحل للإنسان النظر إليه، کالنظر إلى النساء الأجنبيات على أي صفة الصفات على سبيل التلذُّذ أو النظر إلى الشاب الأمرد لا سيما الوسيم من الشبان، أو النظر إلى أي منكر يُفعل؛ فإن ذلك خيانة لا يُقرها عقل صحيح، ولا يرتضيها الشرع الإلهي الشريف.
٤- وجارحة اللسان أمانة، وهي من أعظم الجوارح إما نفعا أو ضررا، فإن استعمل هذا الجرم الصغير في قول الحق كقراءة القرآن الكريم، والذكر لله بجميع
أنواعه، والاستغفار، وتعليم الناس أمور دينهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وبذل النصح لهم، ونحو ذلك من کل کلم طیب، فإن صاحبه يجني ثمراته في دنياه وأخراه، وكان حافظًا للأمانة فيه، أما إذا استعمل في غير وظيفته، كأن يستعمل في منكر القول وفحشه من كذب وسب وشتم وغيبة ونميمة وسخرية وغناء وقلب للحقائق لينصر الباطل ويغمط الحق؛ فقد خان الأمانة، وانحرف بهذا العضو إلى غير ما خُلق له.
5- والبطن أمانة، فلا تؤدى الأمانة فيه إلا إذا أودع فيه الحلال، وحفظ به وأودع فيه الخير بحذافيره، فيكون وعاء لذلك الخير، أما إذا أودع صاحبه فيه
الشر، وجعله وعاء له؛ فقد انحرف به، وخان الأمانة في هذا العضو.
6- وهكذا اليد أمانة، والرجل أمانة، فإذا استعملها العبد في كل ما ينفعه في دينه ودنياه، وزاول بها جلب المصالح ودفع المضار، وراقب الله في كل تحركاتهما وسكناتهما، فقد أدى الأمانة فيهما، وإن سلَّطها فيما لا يحلُّ له من سفك دم معصوم، أو ضرب بريء، أو سرقة، أو نهب، أو مشي إلى محرم وفساد؛ فقد خان الأمانة التي فرضت على هذه الأعضاء، وبالتالي فليعلم الإنسان أن هذه الجوارح من نعم المولى عليه، وسوف يسأل عن استعمالها، كما قال الله عزوجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}. [الإسراء: ٣٦].
وهناك أمانات أخرى اؤتمن عليها هذا الإنسان المكلف، وذلك كتربية الأولاد، وبذل النصح للرعية، وتبليغ الدعوة إلى الله، والقيام بحق القرابة والجوار، وأداء ما أنيط به من عمل ما في جهة من الجهات، وفي أي حقل من الحقول، وفي أي نوع من
أنواع العمل.
ومن هذا العرض المفصل يدرك القارئ الكريم مدى أهمية الأمانة في شرائع الله المُنزلة، إذ بمراعاتها توجد الحياة السعيدة، وبإضاعتها أو بخسها تختلُّ موازین الحياة، وتسوء العاقبة، وتسود الفوضى، ويتسلَّط القوي على الضعيف بدون خوف
أو حياء، وبدون تفكير أو تأمل في نهايات الأمور.
المنهج القويم في التأسي بالرسول الكريم ﷺ [196-200].
العلامة زيد بن محمد بن هادي المدخلي
-رحمه الله تعالى-.