{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}, إلى قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} الآية [يوسف: 24-53]
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن يوسف الصديق من العفاف أعظم, فإن قيل فقد همّ بها قيل عنه جوابان:
- أحدهما : أنه لم يهم بها بل لولا أن رأى برهان ربه لهمّ، هذا قول بعضهم في تقدير الآية.
- والثاني: وهو الصواب أن همه كان هم خطرات فتركه لله فأثابه الله عليه وهمها كان هم إصرار بذلت معه جهدها فلم تصل إليه فلم يستو الهمّان.
قال الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله عنه-: “الهم همَّان: همُّ خطرات وهم إصرار, فهمّ الخطرات لا يؤاخذ به, وهم الإصرار يؤاخذ به”.
فإن قيل: فكيف قال وقت ظهور براءته: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}
قيل: هذا قد قاله جماعة من المفسرين, وخالفهم في ذلك آخرون أجلُّ منهم, وقالوا: إن هذا من قول امرأة العزيز لا من قول يوسف -عليه السلام-.
والصواب معهم لوجوه:
أحدهما: أنه متصل بكلام المرأة وهو قولها: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 51-53]
ومن جعله من قوله, فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه, والقول في مثل هذا لا يحذف لئلا يوقع في اللبس, فإن غايته أن يحتمل الأمرين, فالكلام الأول أولى به قطعًا.
الثاني: أن يوسف -عليه السلام- لم يكن حاضرًا وقت مقالتها هذه, بل كان في السجن لما تكلمت بقولها {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} , والسياق صريح في ذلك, فإنه لما أرسل الملك إليه يدعوه قال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50].
فأرسل إليهن الملك وأحضرهن وسألهن وفيهن امرأته, فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته, ولم يمكنهن إلا قول الحق, فقال النسوة: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} [يوسف:51].
وقالت امرأة العزيز: {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51].
فإن قيل: لكن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52].
الأحسن أن يكون من كلام يوسف –عليه السلام-, أي: إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله؛ ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته, وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف:53]. وهذا من تمام معرفته -عليه السلام- بربه ونفسه, فإنه لما ظهرت براءته ونزاهته مما قذف به؛ أخبر عن حال نفسه وأنه لا يزكيها ولا يبرئها فإنها أمارة بالسوء, لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه, فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر براءته.
قيل: هذا وإن كان قد قاله طائفة, فالصواب أنه من تمام كلامها, فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه وهو: قول النسوة: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} وقول امرأة العزيز: {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}, فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر, ثم اتصل بها قوله:{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فهذا هو المذكور أولاً بعينه فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه, ويضمر فيه قول لا دليل عليه.
فإن قيل: فما معنى قولها {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}؟ قيل: هذا من تمام الاعتذار, قرنت الاعتذار بالاعتراف, فقال: ذلك_أي: قولي هذا وإقراري ببراءته_ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته, وإن خُنته في وجهه في أول الأمر, فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته, ثم اعتذرت عن نفسها بقولها: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} .. ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرئ نفسها, وهي أن النفس أمارة بالسوء.
فتأمل ما أعجب هذه المرأة! أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها, ثم اعتذرت عن نفسها, ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت, ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته, وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر.
فوازن بين هذا وهذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف -عليه السلام- لفظا ومعنى, وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت, ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك, فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه وإن أشركوا معه غيره, ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29].
إن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله, فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع, وكان الداعي هاهنا في غاية القوة, وذلك من وجوه:
- أحدهما: ما ركبَّه الله سبحانه في الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء, والجائع إلى الطعام, حتى إن كثيرًا من الناس يصبر على الطعام والشراب ولا يصبر على النساء, وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً.
- الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابًا, وشهوة الشاب وحدّته أقوى.
- الثالث: أنه كان عزبًا ليس له زوجة ولا سرية تكسر قوة الشهوة.
- الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى الغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه.
- الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال, بحيث إن كل واحر من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
- السادس: أنها غير ممتنعة ولا آبية؛ فإن كثيرًا من الناس يزيل رغبته إباؤها وامتناعها, لما يجد في نفسه من ذلك الخضوع والسؤال لها, وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحبًا, كما قال الشاعر:
وزادني كلفًا في الحب أن منعت .. أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
فطباع النفس مختلفة؛ فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها, ويضمحل عند إبائها وامتناعها
- السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت, وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها, بل كانت هي الراغبة الذليلة, وهو العزيز المرغوب إليه.
- الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها, بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
- التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه هي, ولا أحد من جهتها؛ فإنها هي الطالبة الراغبة, وقد غّلقت الأبواب وغيبّت الرقباء.
- العاشرة: أنه كان في الظاهر مملوكًا لها في الدار, بحيث يدخل ويخرج, ويحضر معها ولا ينكر عليه, وكان الأنس سابقًا على الطلب وهو من أقوى الدواعي, كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب: ما حملك على الزنى؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد, تعنى: قرب وساد الرجل من وسادتي, وطوال السواد بيننا.
- الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال, فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه, واستعان هو بالله عليهن, فقال: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
- الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار وهذا نوع إكراه, إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به, فيجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.
- الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما؛ ويبعد كلاً منهما عن صاحبه, بل كان في غاية ما قابلها به: أنه قال ليوسف: {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} , وللمرأة: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.
وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع, وهذا لم يظهر منه غيره, ومع هذه الدواعي كلها فآثر مرضاة الله وخوفه, وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}. وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه, وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه, وكان من الجاهلين.
وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه. وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على الألف فائدة.
بدائع التفسير الجامع لما فسره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ص [63-67].