بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهذا هو اللقاء الثاني في بدء هذا العام الدراسي الذي نسأل الله -جل وعلا- أن يجعله عامًا صالحًا نافعًا مباركًا لنا ولعموم المسلمين في كل بلاد الله -جلّ وعزّ- وأن يرفع الضر الذي نزل بإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها إنه جواد كريم.
ورغبت في هذا اللقاء أن أذكر وخاصة كما قلت نحن في بدء هذا العام بقضية يغفل عنها كثير، وإن كنّا قد نبهنا عنها مرارًا وتكرارًا، ونبّه غيري أيضًا من المشايخ -وفقهم الله-، لكن هذا من باب التذكير والذكرى تنفع المؤمنين.
يكثر في مثل هذه الأوقات، وفي مثل هذه التجمعات، وفي مثل هذه اللقاءات كما قلت الكلام الكثير، ولكن مما يجب أن تنتبه له وخاصة أنك تنتسب إلى طلب العلم الشريف، هذه الرتبة العليِّة يجب أن تعلم ثمّة أمور وشروط يجب أن تعرفها، تحيط بالكلام حتى يكون كلامًا نافعًا مجديًا بحول الله -جل وعلا-.
فأنا أذكر كلامًا لأحد أهل العلم وهو العلامة الماوردي -رحمه الله – في كتابه “أدب الدنيا والدين” ثم نعلّق على كلامه ، ماذا قال -رحمه الله – ؟
قال : “اعلم” هذا يخاطب ويتكلم لمن يتأتى منه العلم، “اعلم” أي يامن يتأتى منك العلم “اعلم أن للكلام شروطًا لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها” لا يسلم المتكلم من تبعات كلامه من المآخذ والاستدراكات إلا إذا حقق هذه الشروط، حتى يسلم من التبعات والزلل والخلل، وهذا الخلل قد يكون عظيمًا وشديدًا، وقد يكون يسيرًا يختلف باختلاف نوعه.
يقول -رحمه الله- “لا يسلم المتكلم من الزلل إلا بها ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها” يعني إن لم يأتِ بها على وجهها كان قد أتى بالنقص في كلامه وتخلل في كلامه استدراكات ومتابعات وإيرادات، وبيان المراد بعد أن تأتيك الاستدراكات والاعتراضات وتبعات الكلام تقول أنا أردت وأنا قصدت، والقاعدة عند أهل العلم “أن بيان المراد لا يدفع الإيراد ولا الاعتراض”.
يقول -رحمه الله- : “ولا يعرى من النقص إلا بعد أن يستوفيها” ماهي؟، قال: “وهي أربع شروط:
الأول : أن يكون الكلام لداعٍ يدعوا إليه، إما في اجتلاب نفعٍ، أو دفعِ ضرر”.
بمعنى أن يكون الباعثُ على الكلام ثمَّة حاجة تدعو إلى الكلام، وتدعو إلى الإيراد، وتدعو إلى الفصح، كل هذا له سببٌ وحاجةٌ إما في اجتلاب نفعٍ، أو دفع ضرر.
بمعنى أن الكلام إن لم يكن له نفعٌ، ليس فيه اجتلاب منفعةٍ، ولا دفعُ مضرَّة، كان مستوفيًا لهذا الشرط؟، ليس مستوفيًا محلُّ مؤاخذة، لهذا لا تتكلم فيما لا يعنيك، وفي الحديث الذي تحفظون، وهو من ضمن الأربعين نووية قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((منْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ))، والكلام في الحديث فيه كلام.
الشاهد أن الكلام فيما لا يعني، الكلام فيما لا حاجة فيه، ولا منقبة من ورائه، لا دفعُ مضرَّة، ولا جلب منفعة، كلام سفُسطائي عارٍ عن الفائدة، فهذا تحمِّلُ نفسك أحمالًا فوق أحمالها، وتبعات فوق تبعاتها، وأنت في غنىً عن هذا:
لقاء النَّاس ليسَ يُفيد شيئًا °°°سِوى الهذيان مِنْ قيل وقال
فأقلل مِنْ لقاء النَّاس إلاَّ °°° لطلب علمٍ أو إصلاح حال
هذا الذي يجب أن تركِّز عليه، أن يكون الكلام لحاجةٍ تدعو إليه، كثيرٌ من الفتن، والقلاقل، والشِّقاق، والنِّزاع، والفِّراق، يبدأُ من مثل هذا، بالكلام الذي لا فائدة من ورائه، ولا حاجة إليه، ثم تنتصر النفس إلى المقالة التي لا فائدة منها، ثم يتعصَّب لها صاحبها، وهكذا تتفرَّق وتتشرذم جماعة أهل الحقِّ بسبب كلام لا فائدة منه، ولا خير فيه، قال – عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
والكلام الذي لا حاجة إليه ليس خيرًا؛ لأن ليس فيه جلب منفعة، ولا دفع ضرر، يبدأُ الشِّقاق، والنِّزاع والمشاكل بين الأخوة، لا أتكلم عن شيءٍ في الخيال، أو ضربٌ من ضروب الخيال، أنتم تعايشون هذا، حتى بين الأخوة أصحاب المنهج الواحد، والعقيدة الواحدة، والمسلك الواحد، يتنازع البعض فيما لا سبب فيه أصلًا.
أرسل إليَّ أحدهم رسالة من الطلبة لا أدري من هو: يا شيخ كيف التوجيه، نحن أخوة سلفيين، وطلاب علم سلفيين، نركب السيارة سويًا، وأحدنا يقول نريد نمشي يمين، والثاني يقول نمشي يسار، ويختلفان في السيارة يمين، ولا يسار، وكذا، ويصبح بيننا شِقاق، وفي النفوس شيء، هذا عقل!! وصلنا إلى هذه المرحلة، أيُّ سلفيةٍ ناقصة هذه، يرغبون في التوجيه في حلِّ مثل هذا، حتى أطلع معكم السيارة، حتى أُصلح أقول يمين ولا يسار امشِ طول، اترك يمينًا، واترك يسارًا، يعني انظر إلى أيِّ مدى، لأن الكلام فيما لا فائدة منه، ((وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)) يحتاج هذا إلى مزيد من التوجيه!!
يقول – رحمه الله – : “أن يكون الكلام لداعٍ”، يعني ثمة موجب، أما الثرثرة والكلام الذي لا داعي إليه، ولا حاجة إليه، اصمت، فمن صمت نجا.
“الثاني: أن يأتي في موضعه، ويتوخَّى به إصابة فرصته”، وهذا كلامٌ في غايةٍ من الدقة، والمتانة، قد يكون الكلام ثمة داعٍ إليه، لكن لا يأتي في موضعه، ولا في محله، ولعلكم تذكرون، أني ذكرتُ قديمًا في هذا الجامع المبارك نحو من هذا الكلام، فقلتُ ليس كل ما يُعلم يُقال، علَّقتُ على هذه المقالة بالتفصيل، ليس كل ما يُعلم يُقال، ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ ميدانٍ رجال، فهل أنت من أهل هذا الميدان؟ أن تتكلم فيما تظن أن ثمت حاجة إليه، فقد تأتي بالكلام الذي تظن أنه في حاجة لكن ليس في محله ولا في موضعه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه أظنه الفوائد لما ذكر الأسباب المعينة للنفع والانتفاع انتفاع القلب، قال: “خلوه من الضد” فقد تأتي بالكلام في غير موضعه لأن الضد غير خال، فتتكلم في غير المحل، وفي غير الموضع فتفسِد ولا تصلح والله لا يحب المفسدين.
وهذا إنما يقدره أهل الفضل والعلم، من كثر كلامه كثر سقطه انتبه، ولهذا يعثر الكثير ثم بعد أن تبدأ الملحوظات تترى أنا ما أردت أنا ما قصدت أنا أخطأت في دخولي، طيب لماذا تدخل من أول؟ ولماذا تتكلم بما لا فائدة فيه؟ ولا طائل من ورائه؟.
قال: “ويتوخى به إصابة فرصته”، يتحيَّن الموضع المناسب والوقت المناسب للكلام، ليصادف محلًا قابلًا فينتفع، فينفع نفسه وينفع غيره.
قال -رحمه الله- “الثالث: أن يقتصر فيه على قدر الحاجة”.
دائمًا تأتي التبعات من الشروح والحواشي والزيادات والإرادات والتفصيلات التي لا طائل من ورائها، فيقتصر بالكلام على قدر الحاجة، وينبه على المراد ويذكر به على قدر الحاجة، ولا يزيد، ولهذا يذكر أهل العلم في أبواب الجرح والتعديل وقد نبهنا على هذا في شرحنا على الضوابط “ضوابط الجرح والتعديل” وغيره كلام أهل العلم في مسألة الجرح على قدر الحاجة، إن كان الناس تتركه إذا ما قيل فيه كذاب أو متروك أو نحو ذلك لا تزد، فتكلم بقدر الحاجة.
وكما قلتُ وأعيد أن الكلام في أعراض الناس الأصل فيه المنع والحظر، لا يجاز ولا يباح إلا بضرورة شرعية، أبيح للضرورة الشرعية، والقاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها، فيتكلم فيها بحذر وقدر، فالكلام يجب أن يكون بقدر الحاجة؛ لأنه لو زاد طاش العقل وخرج عن المراد، وكما قلنا قد يرِد على الكلام ما يرد، فيشطح المرء ويورد على نفسه ما هو في غنىً وعافية منه.
الأمر الرابع أو الشرط الرابع: “أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به”.
يعني يتخيرُ من الكلام والألفاظ ما يدلُّ على المراد، ويوصِلُ الحاجة المُرادة، ويُفصِح عن القدر الذي يريد تبليغه، بعبارةٍ واضحةٍ، سهلةٍ، مفهومةٍ، مؤديِّةٍ للغرض، أما الشقشقة في الكلام، والخروج بعباراتٍ فيه قبح أو استقباح، أو غير ذلك، فهذا – والعياذ بالله – يصدُّ ولا يأتي على المراد به من نصيحة الشخص، أو بيان المراد من دفع ضررٍ، أو جلبِ منفعة.
أذكِّر بهذه الشروط الأربعة خاصةً وأنت في بدء العام، استعد لهذه الأشياء واعرفها، وتكلَّم إذا ما تكلمت مع أخيك وزميلك صديقك، جارك كذا فلان، حاول أن تستذكر هذه الشروط الأربعة، وكن منها على ذُكر، حتى لا تقع في النقص والخلل.
لماذا ننبِّه على هذا يا أبنائي؟ بارك الله فيك، للحاجة الماسة إليه، ولتعلموا أن أهل العلم عندما نصُّوا على مثل هذه الآداب وهذه الشروط في مصنفاتهم، أو مؤلفاتهم لأهمية وضرورة التذكير بها، والعناية بها، إهمالها مظنة الخلل، بل هو يعني متحقِّقٌ فيمن أخل بذلك، الخلل في كلامه، والإيراد على عباراته.
كم المشاكل التي في البلاد شرقًا وغربًا، بعضكم كان في بلده هذا الصيف وجاء، والبعض ما سافر، والبعض كان في بلدٍ آخر، كان، وكان، كثيرٌ منهم مشرِّقٌ ومغرِّب، ورأى لعلَّ تفويت الناس لهذه الشروط الأربعة، كم أوجد من خللٍ في مجتمعات عديدة، الطُّلاب بين أظهر المشايخ، لا نقول في بلدان بعيدة، بين أظهر هم ويقع خللٌ كثير وكبير في بعض أطروحاتهم.
فحريٌ بك أن تسعى جاهدًا – بارك الله فيك – حدِّث نفسِك، إن لم تحدثها من قبل، حدِّثها الآن، واعقد العزم الآن على أن تصحِّح مسارك، وأن تقوِّم أمرك، وأن تجاهد نفسك على تصحيحها، وإلجامها، وتقويمها على السنة.
قد يكون حصل شيءٌ من الارتخاء، أو التسويف، الفرصة مواتية الآن الحمد لله، أعِد، هذا ممنوع!! أحد يمنعك من هذا، يقول لك لا تصلح نفسك فيه، لا يوجد إلا شيطان من شياطين الإنس والجن، فقط، أما الرجل الصالح المصلِح لا يريد لأخيه إلا الخير، فحدِّث نفسك واعزم على التصحيح، والتزم، ما الذي يمنع؟، ما في ما يمنع – بارك الله فيك -.
إذًا – بارك الله فيكم – حتى لا تكثُر القلاقل، ولا تكثُر الفتن، الفتنة لا تأتي والمشاكل لا تأتي إلا من زيد، وعمرو، وفلان، وفلان، يتكلم فلان بالكلام، يلقي الكلام على عواهنه، بغير حاجة، لغير داعٍ في غير موضع، لا يتخيَّرُ الكلام الحسن، ولا ، ولا، ولا، ولا يتكلمُ بقدر الحاجة، يبدأُ القيل، يبدأُ القال، يبدأُ الرد، المردود عليه، يتكلم الناس ويكثُر المتكلمون عبر وسائل التواصل – كما يقولون – أو التقاطع، يكتب هذا، ويكتب ذياك، والكل يكتب، فتأتي المشاكل، ثم يأتي الطلاب زرافات ووحدان، ماذا نفعل؟، نريد أن نتحاكم، هم الذين بدأوا بالخصومة وبالمشاكل، لو أحسنوا استغلال أوقاتهم، وأحسنوا تطبيق شروط أهل العلم في كلامهم لأراحوا أنفسهم، وأراحوا المشايخ.
فنسأل الله لنا ولكم التوفيق والسَّداد، وأن يسدِّدنا ولكم في القول والعمل، إنه جوادٌ كريم.
المصدر
اللقاء الثامن والعشرون
من لقاءت الجمعة
مع الشيخ الدكتور عبد الله البخاري
حفظه الله