الحمد لله وبعد
كثر الكلام بين طلبة العلم في أمر التأصيل العلمي، حتى ذهب فئام منهم إلى تصورات خاطئة في هذا الباب، إما أنهم تلقفوها من غيرهم أو تصوروها تصورا قاصرا من ذوات أنفسهم.
وأدى هذا الأمر إلى مشكلتين رئيستين:
📝 الأولى: نفور بعض الطلبة ممن سلك مسلك العلم وسار على الجادة. فتوقف سيره، وانثنى جواده ، وذلك لقناعته -الخاطئة- بأنه على غير الطريق، وأنه سلك غير سبيل التأصيل كما هو تصوّر البعض.
📝 وثانيا: الادعاءات الجوفاء في أن البعض مؤصَّل مؤصِّل ، وأما غيره فلا تأصيل عنده، وانجر هذا الأمر حتى على بعض كبار العلماء فادعي في بعضهم أنه غير مؤصل، ولا مؤصِّل لغيره .
ولست هنا لأحل هذا الإشكال بزيادة تعقيد. أو كبير تفريع وتفصيل.
وإنما هي تسهيلات، لعلها بعون الله أن تكون واضحة المعالم في بيان شأن التأصيل، وتنقية لمعنى هذا المصطلح مما جني عليه غلوا أو تفريطا.
وقبل البدء ببيان المقصود لا بد أن يعلم أن الابتداء بحفظ القرآن هو الجادة التي يسلكها طالب العلم، وإن لم يتيسر له ذلك قبل طلبه؛ فيجمع بين العناية بكتاب الله وطلب العلم.
وقد جعلت ما يتعلق بالتأصيل في وقفات خمس:
🖋 الوقفة الأولى: لابد أن نعلم أنه بقاعدة عامة أن فهم شيء أو البدء به يكون بأيسره، ثم يتطور الإنسان به متدرجا في ذلك.
وعلى هذا مبدأ التعليم وأساسه.
فأول الأمر البدء بصغار العلم قبل كباره.
وفي طلب العلم الشرعي يتمثل ذلك بالبدء بالمتون المختصرة، مع الحرص على حفظها، وضبطها. وهكذا يتدرج بما بعدها .
🖋 الوقفة الثانية: لا بد في ضبط هذه المراحل من شيخ ضابط، يُحسن فكّ العبارة، وتلخيص المسألة، وبيان الحكم المقصود، فهذا سبيل صحيح في التأصيل، وأما الدراسة على الكتب والاقتصار عليها ، أو على من لم يضبط العلم؛ فهو من الخلل الحاصل عند البعض، وإن استمر عليه أثمر عنده تشتتا ذهنيا، وعشوائية في ترتيب المسائل حسب أهميتها، ومنزلتها في الأولويات العلمية.
🖋 الوقفة الثالثة: الاجتهاد في الاستمرار، وحث النفس على الديمومة، فالمتنقل لن يقطع طريقا، ولن يصل إلى هدف صحيح، وبكثرة وقوفه وانثنائه عن طريقه، يكون ضعفه وخلل الطلب عنده.
وقد يكون هذا عائقا عن الاستمرار لا سيما مع طول الانقطاع، إذ يحتاج في ذلك إلى العودة إلى نقطة الانطلاق، وهذا يطيل الطريق، ويضعف الهمة.
🖋 الوقفة الرابعة: إياك والتقليد في سيرك في طلب العلم، فإنه سبب لضعف التحصيل، وخلل التأصيل، فانظر حاجتك ولا تتأمل حاجة غيرك. فغيرك ربما سبقك بمراحل فيصلح له ما لا يصلح لك، أو سبقته أنت بمراحل، فيطيل عليك الطريق، والعمر واحد لا يتسع للإخلال.
وإنما انظر إلى حاجتك ومستواك، واستشر في ذلك إن جهلت النافع لك، أو ضللت عن الصواب.
🖋 الوقفة الخامسة: اعتن بمراجعة المشروح، ولا تهمله، فطول الانقطاع عنه مظنة لنسيانه، وأي تأصيل ينفع المهمل، الذي غايته من العلم تقييد الفائدة، وعهده بها وقت كتابتها فقط ؟!. ثم الغفلة عنها الشهور بل والأعوام. وإذا قيل له ماذا درست؟ عدّد عناوين الكتب، وهو قد نسي مسائلها ومضامينها.
🔘 هذه وقفات يسيرة لعلها أن تصادف راغبا في فهم أمر التأصيل، محتاجا لتصحيح مساره، وتعديل بوصلة طريقه.
وكلام السلف في التنبيه على ما سبق وغيره كثير متناثر.
وإنما هي خاطرة للتذكير، ولطيفة خفيفة القراءة حتى لا يتملل متملل أو متأفف من طول الكلام.
والله أسأل لي ولمن قرأ، ولمن نحب، وللمسلمين التوفيق والسداد.
🖋 كتبه محمد بن غالب العمري
ليلة التاسع عشر من شوال ١٤٤١.