ما هو الأدب
[ نضع لكم بعض الفوائد المأخوذة من شرح الأدب المفرد للشيخ د. خالد الردادي وفقه الله ، مفرغ لم يراجعه الشيخ ]
واليوم سنتحدث عن مسألة تتعلق بالمقدمة، أرى أنها بالأهمية بمكانه وهي معنى الأدب وفضله ومكانته وعناية السلف بها، ولا نريد أن نطيل في هذه المقدمة حتى نزلف لأبواب وأحاديث الكتاب.
الأَدَبُ: هو الظَّرْفُ وحُسْنُ التَّناوُلِ ويقال أدّب فهو أديب وجمعه أدباء، أَدَّبَه أي عَلَّمَه فتَأَدَّب.
في كتاب (المطلع على ألفاظ المقنع) قال: الأدب مصدر أدِب الرجل إذا صار أديبا في خلق أو علم اهـ.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهذه وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالِاجْتِمَاعِ.
فَالْأَدَبُ: اجْتِمَاعُ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ، وَمِنْهُ المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس اهـ.
ولذلك كان معناه في الاصطلاح يشمل التثقيف والتهذيب في العقل والشعور فكما أن الطعام يغذي الأبدان فإن الأدب يغذي الوجدان، ولا ريب أن كلمة الأدب من المصطلحات التي دار حولها الجدل و تعددت وتباينت فيها الآراء وتجاذبتها الأطراف ومازالت موضع دراسة وبحث حتى يومنا هذا.
وقد تتبع بعض الباحثين الأحوال التاريخية لإطلاق هذه الكلمة فوجدوها مرت بالأطوار التالية:
في الجاهلية وصدر الإسلام: كان أول استعمال لها -أي الأدب- في كلامهم شعرًا ونثرًا بمعنى الدعوة إلى الطعام، فإنهم يقولوا أَدَّب القوم بأَدَبِهم أو يُأَدّبهم أدبًا إذا دعاهم إلى طعام يتخذه.
كما اشتقوا كلمة “المأدبة” وهي الوليمة من ذلك وقد تحول هذا المعنى الحسي إلى معنى نفسي ينطوي فيه وزن الأخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة.
وفي العصر الأموي: ظلت لفظه الأدب بالمعنى الخلقي والتهذيبي ولكنها تحمل معنى آخر وهو معنى تعليمي، فقد ظهرت طائفة من المعلمين تسمي المؤدِّبين كانوا يعلمون أولاد الخلفاء في فيلقِّنوهم الشعر والخطب وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم في الجاهلية والإسلام.
وأتاح هذا الاستخدام لكلمة “الأدب” بأن تكون مقابلة لكلمة العلم الذي يطلق حينئذ على الشريعة الإسلامية وما يتصل بها.
وأما في العصر العباسي: فقد استفاض استعمال كلمة أدب وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر و النثر والشعر واللغة إلى غير ذلك، وأُطلقت على كل هذا وأُنزلت منزلة الحقائق العرفية اصطلاحًا، وبهذا المعنى نقل ابن خلدون عن الأدباء في حد الأدب أنه حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل بطرف.
ولا ريب أن كلمة الأدب من الألفاظ المشتركة التي تحمل عدة دلالات فهي في بحسب ما احتفت من القرائن والمواقف، وقد يطلق الأدب أيضًا ويقصد به كل ما يؤثر في النفس من نثر رائع وشعر جميل يراد به التعبير عن مكنون العواطف والضمائر وسوانح الخواطر بأسلوب إنشائي راقٍ أنيق يطلق على الشعر والنثر الفني فحسب.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- علم الأدب هو علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه عن الخلل والخطأ وهو شعبة من الأدب العام اهـ.
ولا ريب أن هذه الكلمة -وهي الأدب- كلمة عظيمة، وهي تعني اجتماع خصال الخير في العبد وأنها تعني جمال العبد في باطنه وظاهره، جماله في أخلاقه، في جوارحه، في حركاته وسكناته، في هيئته ومظهره، في قيامه وقعوده، في حلمه وترحاله، في معاملته وجميع شئونه.
[ ما هو الأدب ]
وقد عرف العلماء الأدب اصطلاحًا كما يأتي:
قال الحافظ بن حجر -رحمه الله- “الأدب هو استعمال ما يُحْمَد قولًا أو فعلًا.”
وقال المناويّ رحمه الله: الأدب رياضة النّفوس ومحاسن الأخلاق ويقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل.
وقيل: هو التخلق بالأخلاق الجميلة والخصال الحميدة في معاشرة الناس.
وقيل هو عبارة عن معرفة ما يحترز عن جميع أنواع الخطأ. وقيل غير ذلك.
ولعل تعريف الحافظ ابن حجر هو الذي استعمله العلماء وهو شائع وهو تعريف جامع مانع
وقد عَرَّفه -كما مضى معنا- بأنه استعمال ما يُحْمد قولًا أو فعلًا.
قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة الأدب
استعمال الخلق الجميل، ولهذا كان الأدب استخراجًا لما في الطّبيعة من الكمال من القول إلى الفعل اهـ.
هذا ما يتعلق بطرفٍ من تعريف العلماء حول معنى الأدب
وأما عن فضله فيطول الحديث في فصله فقد أَولى السلف -رحمهم الله- اهتماما عظيمًا بهذا الشأن فجدُّوا في طلبه ودعبوا في تحصيله،
ونذكر ها هنا طرفًا من ذلك:
- قال عمر -رضي الله عنه-: “تأدبوا ثم تعلموا”
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل”.
- قال إبراهيمُ النَّخَعي: (كان العلماء إذا أتَوُا الرجلَ ليأخذوا عنه نظروا إلى سَمْته، وصلاته، وإلى حاله، ثم يأخُذونَ عنه).
- وروى الإمام مالك عن التابعي الجليل محمدُ بن سِيرين (في وصف حال كبار التابعين): (كانوا يتعلَّمون الهَدْي كما يتعلمون العِلم)
- قال سفيان الثوري: (كان الرجلُ إذا أراد أن يكتب الحديث تأدَّب وتعبَّد قبل ذلك بعشرين سنةً).
- وعن خالد بن نزار قال سمعت الامام مالك بن أنسٍ لفتًى من قريشٍ: “يا ابنَ أخي، تعلَّمِ الأدبَ قبل أن تتعلم العلم”.
- وقال الإمام مالك -رحمه الله- قال: (كانت أمي تعممني -أي تلبسه العمامة- وتقول لي اذهب إلى ربيعة فتعلم منه أدبه قبل علمه)
- قال ابن المبارك: قال لي مخلد بن الحسين: (نحن إلى كثيرٍ من الأدب أحوجُ منا إلى كثيرٍ مِن الحديث)؛
- قال القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال سمعت أبي يقول (كان يجتمع في مجلس أحمد نحوُ خمسة آلافٍ – أو يزيدون نحو خمسمائةٍ – يكتبون، والباقون يتعلَّمون منه حسنَ الأدب والسَّمت)
- وقال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: (يا بني اجعل عملك ملحًا وأدبك دقيقًا) -أي استكثر من الأدب- حتى تكون نسبته في سلوكك من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه فمعنى أن الإكثار من الأدب في العمل القليل خير من العمل الكثير الخاوي من الأدب.
وهكذا كانت وصية سلفنا الصالح بتعاهد الأدب أكثر مما يتعاهد به العلم بل جعلوه مقياسًا ومعيارًا يقاس به الناس عندهم، فإذا لم يوافق هَدْي الرجل علمه تركوه ونبذوه فليس العلم عن كثرة المعارف وشحذ الذهن بالفنون واللطائف وإنما العلم ما توصل به إلى خشية الله تبارك وتعالى.