قال فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى:
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ))قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً((
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ ([1])
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم)) المقصود بابن آدم هنا: المسلم الذي اتبع رسالة الرسول الذي أرسل إليه, فمن اتبع رسالة موسى – عليه السلام – في زمنه كان منادى بهذا النداء, ومن اتبع رسالة عيسى – عليه السلام – في زمنه نادى بهذا النداء, وبعد بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي يحظى على هذا الأجر وعلى هذا الفضل والثواب هو من اتبع المصطفى – صلى الله عليه وسلم -, وأقر له بختم رسالة, وشهد له بالنبوة والرسالة, واتبعه على ما جاء. الشرح
قال – جل جلاله -: ((يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ)), وهذه الجملة في معنى قول الله – عز وجل -: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣], فالعبد إذا أذنب وسارع إلى التوبة, ودعا الله – جل جلاله – أن يغفر له, ورجا ما عند الله – عز وجل -؛ فإنه يغفر له على ما كان منه من الذنوب مهما كانت بالتوبة؛ لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها؛ كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ))([2]).
وقوله: ((إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ)) فيه أن الدعاء مع الرجاء موجبان لمغفرة الله – عز وجل -, وهناك من يدعو وهو ضعيف الظن بربه, لا يحسن الظن بربه, وقد ثبت في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ))([3]), والعبد إذا دعا الله – جل جلاله – مستغفرًا لذنبه, ويرجو من الله أن يغفر له, ومستحضرًا أن فضل الله عظيم, وعظم رجاؤه بالله, وأيقن أن الله – جل جلاله – سيغفر له,وعَظُم ذلك في قلبه, حصل له مطلوبه؛ لأن في ذلك إحسان الظن بالله, وإعظام الرغب بالله – جل جلاله -, والعبد المذنب حين طلبه المغفرة وقبول التوبة تجتمع عليه عبادات قلبيه كثيرة توجب مغفرة الذنوب, فضلاً من الله – جل جلاله – وتكرُّمًا.
قال: ((غَفَرْتُ لَكَ)) والمغفرة: غفَر الشيء بمعنى ستَره, فهي ستْر الذنب وستر أثر الذنب في الدنيا والآخرة, والمغفرة غير العفو وغير التوبة؛ فأن الله – جل جلاله – من أسماءه العفو, ومن أسمائه الغافر والغفار والغفور, ومن أسمائه التواب, وهذه تختلف؛ ليس معناها واحدًا, بخلاف من قال: إن معنى العفو والمغفرة واحد, والعفو والغفور معناهما واحد. هذا ليس بصحيح, بل الجهة تختلف والمعنى فيه نوع اختلاف مع أن بينهما اشتراكًا.
- فالعفو هو: عدم المؤاخذة بالجريرة, فقد يسيء وسيئته توجب العقوبة, فإذا لم يؤاخذ صارت عدم مؤاخذته بذلك عفوًا.
- وأما المغفرة فهي: ستر الذنوب أو ستر أثر الذنوب, وهذا جهة أخرى غير تلك؛ لأن تلك فيها المعاقبة أو ترك المعاقبة على الفعل, وهذه فيها الستر دون تعرض للعقوبة.
- والتواب هو: الذي يقبل التوبة عن عباده, ومعنى ذلك أنه يمحو الذنب ولا يؤاخذ بالسيئات إذا تاب العبد وأتى بالأسباب التي تمحو عنه السيئات, فهذه ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى: (العفو), (الغفور), (التواب), لكل اسم دلالته غير ما يدل عليه الاسم الآخر.
والمقصود من ستر الذنب أن يستر الله – جل جلاله – أثره في الدنيا والآخرة, وأثر الذنب في الدنيا العقوبة عليه, وأثر الذنب في الآخرة العقوبة عليه, فمن استغفر الله – جل جلاله – غفر الله له, يعني: من طلب ستر الله عليه في أثر ذنبه في الدنيا والآخرة ستر الله عليه أثر الذنب, أي حجب عنه العقوبة في الدنيا والآخرة.
قال: ((يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ)) يعني: من كثرتها وتراكمها بلغت عنان السماء, أي: السحاب العالي.
قال: ((ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ)) وهذا مما يجعل العبد المنيب يحب ربه – جل جلاله – أعظم محبة؛ لأن الله العظيم الذي له صفات الجلال والجمال والكمال, والذي له هذا الملكوت كله, وهو على كل شيء قدير, وعلى كل شيء وكيل, من عظيم صفاته وجليل النعوت والأسماء يتودد إلى عبده بهذا التودد, لا شك أن هذا يجعل القلب مُحِبًّا لربه – عز وجل -, متذللاً بين يديه, مؤثرًا مرضاة الله على مرضاة غيره – سبحانه وتعالى -.
قال: ((يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ)) وهذا فيه الحث على طلب المغفرة؛ فإنك إذا أذنبت فاستغفرت, فقد ثبت في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ)) ([4]), فمع الاستغفار والندم يمحو الله – جل جلاله – الخطايا.
قال: ((يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً)) يعني: لو جاء ابن آدم بملء الأرض خطايا, ثم لقي الله – جل جلاله – مخلصًا له الدين لا يشرك به شيئًا, لا جليل الشرك ولا صغيره ولا خفيه؛ بل قلبه مخلص لله – عز وجل -, ليس فيه سوى – عز وجل -, وليس فيه رغب إلا إلى الله – عز وجل -, وليس فيه رجاء إلا رجاء الله – عز وجل -, لا يشرك به شيئًا بأي نوع من أنواع الشرك؛ فإن الله – جل جلاله – يغفر الذنوب جميعًا, قال سبحانه: ((ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً)) يعني بملء الأرض مغفرة, وهذا من عظيم رحمة الله – جل جلاله – بعباده, وإحسانه لهم.
المصدر: شرح الأربعين النووية [الحديث الثاني والأربعون] ص [533-537]- طبعة دار العاصمة.
([1]) أخرجه الترمذي (3540), والطبراني في الأوسط (4/315) من حديث أنس – رضي الله عنه -, قال أبو عيسى: ((هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)), وأخرجه من حديث أبي ذر – رضي الله عنه -: أحمد في مسنده (5/ 148), والدارمي (2788), والبزار (9/ 403), والحاكم في المستدرك (4/ 269), وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)).
([2]) أخرجه ابن ماجه (4250), والطبراني في الكبير (10281), والبيهقي في الكبرى (10/154), وأبو نعيم في الحلية (4/210) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه -, قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/84): ((ورواة الطبراني رواة الصحيح))اهـ. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس – رضي الله عنه – أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 436).
([3]) أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند (3/ 491), والدارمي في سننه (2731), وابن حبان في صحيحه (2/ 401), والطبراني في الكبير (210), والحاكم في المستدرك (4/268) من حديث واثلة بن الأسقع – رضي الله عنه -. وأخرجه البخاري (7405), ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – وليس فيه: ((فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ)).
([4]) أخرجه أبو داود (1514), والترمذي (3559), وأبو يعلى في مسنده (1/124), والبزار في مسنده (1/171), والقضاعي في مسند الشهاب (2/13), والبيهقي في الكبرى (10/188) من حديث أبي بكر – رضي الله عنه -. وهو حديث حسن, حسنه الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/408), والحافظ ابن حجر في الفتح (1/122). وله شاهد أخرجه الطبراني في الدعاء (507) من حديث ابن عباس – رضي الله عنه -.