في القران كثير من صفات المنافقين كما في سورة التوبة، فإننا نقرأ ومنهم ومنهم ثم ذكر صفاتهم في سورة كاملة نزلت في شأنهم وهي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1].
وآيات في القران متعددة بيَّنت أعمال المنافقين ومآل المنافقين وأن عقوبتهم أشد من عقوبة الكفار الصرحاء واليهود والنصارى؛ لقول الله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145].
ولا يستبعد النفاق؛ لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخشون على أنفسهم من النفاق وهم براء منه، ولكن امتلأت قلوبهم خشية وخوفا من أن يقعوا في شيء من أعمال النفاق، فيظهرون أعمالا وأقولا طيبة ويبطنون غيرها، وكان بعضهم يسأل حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن المنافقين، يقول له: هل ذكرني الرسول منهم خوفا على نفسه، وهو شهيد من الشهداء، وممن قضى الله لهم بالجنة ومع ذلك يخافون على أنفسهم النفاق، فما بالك بالأجيال التي جاءت بعد هؤلاء الفضلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الواجب أن يخشى كل فرد على نفسه أن يقع في ضرب من ضروب النفاق أو أن يتشبه بالمنافقين، والتشبه بالمنافقين قد يكون في أمور:
كمن يريد إيقاع الفساد في الأرض، إلا أنهم لا يعلنون التخطيط لهذا الفساد فيُسِرُّونه فيما بينهم، وإذا ظهروا مع عامة الناس أظهروا الخير في حالاتهم وأظهروا إنكار الشر والفساد، وهم مع ذلك يخططون لإيقاع الفساد في الأرض وإلحاق الضرر بالمسلمين والمسلمات وولاة المسلمين، يريدون أن يلحقوا بهم ضررا، هذا تشبه بالمنافقين.
فكل تخطيط للفساد والإفساد وإلحاق الضرر بولاة أمور المسلمين وعامة المسلمين فهو تشبه بأهل النفاق؛ لذا وجب الحذر من التنظيمات السرية والاشتراك فيها أو الترويج لأهلها أو الاعتذرات لهم، كل ذلك لا يجوز.
فالمؤمن باطنه وظاهره سواء ما يقوله في ملأ كما يقوله خفية، وما يقوله خفية يقوله جهرا إلا في الشيء الذي لا يقدر عليه فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وبمناسبة ذكر النفاق فإنه ينقسم إلى قسمين:
- نفاق اعتقادي.
- ونفاق عملي.
والفرق بينهما: أن النفاق الاعتقادي مخرج من ملة الإسلام وأهله كما سبق، شر الخليقة لكثرة ضررهم وإخفاء ما يبيتون من الشرور للإسلام والمسلمين، ولا حظَّ لهم في رحمة الله ولا نصيب لهم في مغفرته؛ لأنهم لم يأتوا بأسباب الرحمة والمغفرة، والله يقول {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]، والمنافقون ليسوا من المتقين بل من المفسدين في الأرض.
والنوع الثاني: نفاق عملي: وهو من الكبائر، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)، وفي رواية (وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) وفي رواية (وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ) خمس خصال من وقع في واحدة منها أو جمعها كلها والعياذ بالله وقع في النفاق العملي وهو كبيرة من كبائر الذنوب، يخشى على صاحبه أن يجره إلى النفاق الاعتقادي.
وهذا النوع لا يكفَّر صاحبه إلا إذا استحله واعتبره حلالا فقد كذّب نصوص الكتاب والسنة، ومن كذَّب نصوص الكتاب والسنة فقد كفر، يعني عاهد وغدر وقال هذا حلال، كذَّب القران؛ لأن الله يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } [الإسراء: 34].
فإذا قال نقض العهود يجوز وحلال ونحو ذلك بُيِّن له الحكم الشرعي فإن لم يرجع إلى دائرة الإسلام فقد خرج بهذا التكذيب للقران والسنة من الإسلام.
وإذ كان الأمر كذلك فالحذر الحذر من الكذب في الحديث سواء حديث يتعلق بأحكام الشرع أو حديث يتعلق بأمور الدنيا، لا يجوز لأحد أن يكذب إلا ما جاء مستثنى في نصوص الشريعة، وهو أن يكذب الرجل على امرأته لاستصلاحها وذلك في حدود لا على سبيل التهور والممارسة للكذب في كل حال من الأحوال، أو يلحق بها ضررا وهو يكذب، ينتقل المباح إلى الحرام، أو يكذب الرجل للإصلاح بين المسلمين أو بين أمتين يصلح لئلا يقع الفساد في الأرض من قتل أو تقاطع أو غير ذلك، وكذبه أنه يقول خيرا وينوي خيراً، وفي الحرب فيما أذن فيه الشرع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الْحَرْبَ خَدْعَةٌ) أي: للمحاربين المجاهدين أن يجتهدوا في أن يخدعوا أولئك المشركين الظالمين المعتدين الذين يريدون أن يجتثوا الإسلام وأهله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزو غزوة ورى بغيرها؛ ليخدع أولئك المجرمين.
وأما فيما يتعلق بالعهود فلا يجوز الكذب ولو كان في الحرب، إذا أعطت دولة الإسلام الممثلة في واليهم إذا أعطوا دولة كافرة العهود والمواثيق بعدم الاعتداء أو هدنة وعدم شهر السلاح وجب الوفاء، ومتى رأى والي المسلمين ومن معه من أهل الحِجا رأوا بأن الهدنة ستضر بالإسلام والمسلمين فعلى الوالي أن يعلم بصراحة أن لا عهد للكفار، كما قال تعالى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]، قل لهم لا عهد بيننا وبينكم والحرب سجل.
هذه قيم الإسلام وأخلاق المسلمين لا أهل الاعتداء الذي ما أذن فيه الشرع، ومن ذلك ما حصل في العصر الحديث من قضية التفجير وقضية التنظيم السري وإعداد السلاح وصنع السلاح في دولة مسلمة، ثم يبدأون بها أو يعتدون على من كان مستأمنا للدولة الإسلامية أو ذميا أو معاهدا وما ذلك إلا بسبب جهلهم بدين الله، هم اختاروا الجهل على العلم لأنهم أبغضوا العلماء وأطلقوا عليهم الألقاب الشنيعة.
العلماء بحق هم علماء الشريعة الذين فهوا نصوص الكتاب والسنة على الوجه الصحيح، أطلق عليهم أولئك الغلاة بأنهم علماء السلطان وأنهم أهل القصور وأنهم كذا وكذا وهذه بدون شك علامة أهل البدع والضلال.
من رأيته يلمز العلماء بحق علماء الشرع يلمزهم فإنهم لا حق له في ذلك وأنه من أهل البدع، كما قال السلف رحمهم الله “من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر”.
وإذا قيل “لحوم العلماء مسمومة” فالمراد بهم العلماء بشرع الله العاملون به على مراد الله ونهي رسول الله، ولا يجوز أن يُستَدل بهذه العبارة وهذه الحكمة على من يردُّون على أهل البدع بدعهم وضلالاتهم التي نشروها في مجتمعات المسلمين وأعلنوها وتعصبوا لها وروجوها، لا يجوز لأحد أن يستدل على من يرد على أهل الأخطاء والبدع التي تضر مجتمعات المسلمين وتسيء إلى الإسلام، لأنه كامل لا يحتاج إلى أمر محدث؛ فإن قولهم لحوم العلماء مسمومة يريدون المبتدعين فهو قول باطل واستدلال منهم في غير محله، بل هو تضليل ومكر منهم بالناس.
فالمراد بأن لحوم العلماء مسمومة لا يجوز أن تنتهك هم العلماء بشرع الله العالمون به والعالمون به والداعون إليه على نور من الله عز وجل.
والشاهد من هذا أن النفاق ينقسم إلى قسمين: اعتقادي وعملي.
والعملي من كبائر الذنوب، كالكذب في الحديث والغدر بعد العهد والفجور في الخصومة وخلف الوعد، هذه يجب أن يبتعد عنها المسلمون عموما وطلاب العلم خصوصا، ولا يستعملون فيها أيضا طريقة المزاح، يكذب فيقول أمزح لا يجوز، ويَعِد ويخلف باختياره لا يجوز.
وهكذا الإسلام أقواله وأعماله جليلة وفاضلة فيها الحياة الطيبة المباركة وفيها سعادة الدنيا والبرزخ والأخرة، فالبدار البدار إلى التمسك بتعاليم دين الإسلام في كل شأن من شؤون الإسلام، أصوله وفروعه وحقوقه وفضائله ومحاسنه ومكمِّلاته؛ لأن في ذلك الحياة الطيبة المباركة ورضا الله تبارك وتعالى.
المصدر
السبيكة الذهبية حلية العقيدة الواسطية
للعلامة زيد بن محمد المدخلي رحمه الله وغفر له
ص (100- 105) بتصرف يسير